اتبعْ خطى بابلو بيكاسو عبر إسبانيا

في عام 1907، اخترع الفنان الإسباني بابلو بيكاسو Pablo Picasso والرسام الفرنسي جورج براك Georges Braque طريقة الرسم التكعيبية، وهي أسلوبٌ في الرسم يتميّز بأشكالٍ هندسيةٍ مًجرَّدةٍ. وقد أصبح الفنانان في ذلك العامّ صديقَين وزميلَي عملٍ بشكلٍ سريعٍ في باريس بعد أن زار براك استوديو بيكاسو.

وعلى الرغم من أنّ بيكاسو قضى العديد من سنوات شبابه في فرنسا، إلّا أنه كان دائماً يحتفظ بمكانٍ في قلبه لإسبانيا. فقد وُلِد في مالقة عام 1881، وغادر إسبانيا إلى باريس عام 1904، لكنه كان يعود إلى موطنه الأصلي في كثيرٍ من الأحيان إلى أن استولى الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو Francisco Franco على السلطة خلال الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر ثلاثينات القرن العشرين.

يقول جوردي فالجاس Jordi Falgàs وهو مؤرِّخٌ للفنّ في كاتالونيا: "بالنسبة للعديد من الإسبان، أصبحت شخصية بيكاسو أيقونةً ورمزاً، إذ صار تجسيداً لما يمكن أن يفعله الفنانون لمعارضة الحرب ولاتّخاذ موقفٍ داعمٍ للديمقراطية، وهو ما أظهر أنّ الفنَّ قادرٌ على أن يكون أيضاً أداةً للنضال من أجل السلام وحقوق الإنسان".

مالقة

عندما كان بيكاسو في التاسعة من عمره، فقد والده خوسيه رويز إي بلاسكو José Ruiz y Blasco وظيفته كمدرّسٍ للفنون، فغادرت عائلته مالقة على الرغم من رغبتها في البقاء في المدينة الساحلية في كوستا ديل سول.

entry-icon
entry-icon
entry-icon
entry-icon

قبل أن يغادر بيكاسو مالقة إلى لاكورونيا، على بعد حوالي 700 ميل بالاتجاه الشمالي الغربي، كان قد حصل على المعارف الأساسية في الفنون. فقد قام والده بتعليم تلميذه الصغير الرسم والتلوين والتركيب ووضع المخطّطات، انطلاقاً من استخدام النماذج الحية أو نماذج الجبس. كذلك فإنّ تجاربه المبكرة في مالقة، مثل حضور عروض مصارعة الثيران، سيكون لها أيضاً تأثيرٌ على حياته وأعماله الفنية لاحقاً.

تتضمَّن جولة تتبّع بيكاسو عبر مالقة محطاتٍ عديدةً. ﻓ (متحف مسقط رأس بيكاسو) يشغل الشقة المكوَّنة من ثلاثة طوابق في بلازا دي لا ميرسيد حيث وُلد الفنان. ويعرض هذا المتحف أعمالاً لبيكاسو وأعمالاً لوالده، بالإضافة إلى تذكاراتٍ عائليةٍ ووثائقَ وقطعٍ من الأثاث تعود لزمن وجودهم في مالقة. بينما يضمّ (متحف بيكاسو في مالقة) الواقع في قصر بوينافيستا في المركز التاريخي للمدينة أكثرَ من 200 قطعةٍ فنيةٍ لبيكاسو تغطّي بمجموعها كامل مسيرته المهنية. وفي الفترة الممتدّة من 8 مايو إلى 10 سبتمبر، سيستضيف المتحف معرضاً لمنحوتات بيكاسو.

يمكن للسيّاح أن يتعرّفوا على حياة الفنان المبكرة من خلال زيارة كنيسة سانتياغو حيث تمّ تعميده؛ أو حلبة مصارعة الثيران المحلية؛ أو مدرسة مالقة للفنون الجميلة حيث كان والده يمارس التدريس.

لاكورونيا

الصورة عبر unsplash

عندما غادرت عائلة بيكاسوس مالقة، استقرت في مدينة لاكورونيا. وهنا -حيث عاش بابلو من سن 10 أعوام إلى 14 عاماً- استمرت العائلة في مواجهة الصعوبات. فقد كافح والد بيكاسو للتكيّف مع البيئة الجديدة التي كانت مغايرةً لبيئة مالقة في نواحٍ عديدةٍ، ليس أقلُّها اللغة الجاليكية والطقس البارد والممطر. وكانت العائلة لا تزال تعاني من مشاكل مالية في تلك الفترة التي تخلّلتها وفاة شقيقة بيكاسو (كونشيتا Conchita) البالغة من العمر 7 سنوات، بسبب مرض الخناق في عام 1895.

بغضّ النظر عن ذلك، بدا أنّ بيكاسو كان يستمتع بوقته في لاكورونيا. فقد قام بتكوين صداقاتٍ عديدةٍ، وكان يذهب إلى الشاطئ، ويتمتّع بمزيدٍ من الحرية والاستقلالية عن عائلته. كما كان يذهب إلى عروض مصارعة الثيران وإلى المسرحيات، إضافةً إلى تسجيله في دروس الرسم.

أصبحت الشقة التي عاشت فيها العائلة في شارع بايو غوميز Payo Gómez الآن (متحف منزل بيكاسو)، وتمّ إكماله بأثاثٍ قديمٍ من تلك الفترة الزمنية مع لوحاتٍ تقدّم لنا نسخاً مطابقةً للتجارب التي مرّت بها العائلة في ذلك الوقت. ومن هناك، يمكن للسيّاح زيارة الشاطئ والميناء القريبَين، أو التوجّه إلى مدرسة بيكاسو الثانوية أي معهد أوزيبيو دا غواردا Eusebio da Guarda. وننصحك أن تسير في شارع رويال Royal حيث عرض بيكاسو أعماله لأول مرة، وأن تتوقّف عند مسرح روزاليا دي كاسترو Rosalía de Castro حيث حضر الفنان العديد من العروض وقضى بعض الأوقات وهو يرسم. وأخيراً عليك رؤية برج هرقل، وهو أقدم منارةٍ موجودةٍ في العالم، وقد ظهرت في العديد من لوحات بيكاسو.

برشلونة

الصورة عبر unsplash

في عام 1895، انتقلت عائلة بيكاسو إلى مدينة برشلونة. وهذا هو المكان الذي بدأ فيه بابلو بالفعل في تحقيق ذاته كفنانٍ. يقول عنه فالجاس إنه تقبّل الثقافة الكاتالونية بسهولةٍ وسرعةٍ، وتماهى معها كثيراً لدرجة أنه لم يعتبر نفسه مجرّد إسباني فقط بل كاتالونياً أيضاً.

تمكَّن بيكاسو هنا من تحقيق شيئَين: فمن ناحيةٍ أولى، التحق بمدرسة الفنون الجميلة وواصل تدريبه الأكاديمي. ومن ناحيةٍ أخرى، انضمّ إلى الحياة الثقافية المزدهرة في برشلونة وتعرَّف على العديد من الفنانين والكتّاب والمثقفين في صالات العرض والمقاهي، وهذا ما قاده إلى اكتشاف الفنّ الحديث، وفي النهاية أوصله إلى باريس [حيث انتقل عام 1904]. كان لدائرة أصدقائه الكاتالونيين دورٌ حاسمٌ بالنسبة لبيكاسو في العديد من الجوانب، وعلى رأسها تأثيرهم على تطوّره السريع كفنانٍ.

افتتح (متحف بيكاسو في برشلونة) في عام 1963، وهو يضمُّ أكثر من 4200 عملٍ للفنان، وتمَّ ذلك بواسطة تبرعاتٍ من جاومي سابارتيس Jaume Sabartés (أحَّد أصدقاء بيكاسو لفترةٍ طويلةٍ) ومن بيكاسو نفسه.

لا تزال ثلاثة منازلٍ عاشت فيها عائلة بيكاسو قائمةً بالقرب من ميناء مدينة برشلونة القديمة، وكذلك خمسةُ استوديوهاتٍ فنيةٍ مختلفةٌ، إضافةً إلى مبنى البورصة حيث كان موقع مدرسة الفنون الجميلة. كان مطعم كواتر غاتس Quatre Gats ومعرض سالا باريس Sala Parés للفنون ولا رامبلاLa Rambla وحديقة سيوتاديللا Ciutadella Park وشارع كولمبس Columbus Avenue والشارع الموازي له جميعها من الأماكن الرئيسية في حياة بيكاسو الاجتماعية.

مدريد

الصورة عبر unsplash

لم يقضِ بيكاسو كثيراً من الوقت في مدريد. فقد أمضى فيها حوالي ثمانية أو تسعة أشهر فقط بين عامي 1897 و1898، بينما كان يدرس في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في سان فرناندو. كما أمضى فيها أربعة أشهر أخرى في عام 1901، عندما كان يزوّد بالرسوم مجلةً لم تعُد موجودةً اسمها آرت جوفين Arte Joven. وأثناء وجود بيكاسو في الأكاديمية، كان يفضّل أن يقضيَ وقته في متحف برادو Prado، حيث كان يقوم بنسخ أعمال عظماء الفن من أمثال إل جريكو El Greco وتيتيان Titian وفيلاسكويز Velázguez وغويا Goya.

كلٌّ من متحف برادو والدائرة مفتوحان للزوار في الوقت الحاضر، ولكنْ من أجل رؤية أكبر مجموعةٍ من أعمال بيكاسو في مدريد، بما في ذلك لوحته كبيرة الحجم بالأبيض والأسود غيرنيكا Guernica، فإنّ متحف رينا صوفيا Reina Sofía الوطني للفنون هو شيءٌ لا بدّ من زيارته. كذلك يعرض متحف تيسين-بورنيميزا Thyssen-Bornemisza الوطني أعمالاً لبيكاسو، مثل (رجل مع كلارينيت) و(مصارعة الثيران). بينما تتكوَّن مجموعة متحف بيكاسو-أوجينيو أرياس Eugenio Arias من 71 لوحةً أصليةً لبيكاسو قدّمها الرسّام هديةً لصديقه وحلّاقه القديم أوجينيو أرياس.

المزيد من المقالات